قراءة في خطة المساعدات الأمريكية الجديدة لغزة الأبعاد الإنسانية والسياسية

مقدمة:
حين تصبح المساعدات ورقة حرب لا أداة نجاة
في لحظة فارقة من الانهيار الإنساني الشامل في قطاع غزة، وبينما تلوح المجاعة الجماعية في الأفق وتنهار المنظومة الصحية والغذائية بفعل الحصار والقصف المتواصلين، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب – في أعقاب تنسيقات مكثفة مع حكومة الاحتلال الاسرائيلي – عن خطة جديدة لتقديم المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، لكن الإعلان، الذي جاء وسط زخم إعلامي مضبوط، لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان كاشفًا: فالمساعدات هذه المرة ليست ردًّا على كارثة، بل امتداد لها، وأداة لإدارتها وليس احتوائها.
تستدعي هذه الخطة على الفور نموذج "الميناء الإنساني المؤقت" الذي أنشئ قبالة شواطئ غزة مطلع عام 2024 بتمويل أميركي، وجرى تفكيكه بهدوء بعد شهور، بعد أن تبيّن أن أهدافه الاستخبارية تفوقت على وظيفته الإغاثية المعلنة، واليوم، يُعاد طرح ذات المنطق، لكن بحلّة مختلفة: مساعدات مشروطة، عبر قنوات خاصة، خارج المظلة الأممية، وتحت إشراف أمني مباشر.
الخطة، كما كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز (6 مايو 2025) ووثائق إحاطة أممية، تتجاوز كونها ترتيبًا إغاثيًا طارئًا، وتعكس تصورًا لإعادة تشكيل المشهد المدني في غزة عبر أدوات غير عسكرية، في امتداد واضح لفلسفة "التحكم الناعم" بالجبهة الداخلية، فالخريطة الجديدة لتوزيع المساعدات لا تعكس نية في رفع الحصار، بل تسعى إلى "إعادة هندسة المعاناة" وتوجيهها، عبر نقل المساعدات من حقّ شامل إلى امتياز جغرافي مشروط، ومن مسؤولية دولية إلى أداة تفاوضية بيد طرف سياسي واحد.
وفي الوقت الذي تدّعي فيه واشنطن أنها تقدم "استجابة إنسانية مبتكرة"، ترى منظمات أممية وحقوقية أن هذه الخطة لا تنتمي إلى تقاليد العمل الإغاثي المحايد، بل تؤسس لمنهج جديد من "الإغاثة الأمنية"، حيث تتحوّل المساعدات إلى آلية ضبط سكّاني وتطويع سياسي تحت غطاء إنساني.
السؤال الرئيسي الذي تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عنه هو:
هل تمثّل الخطة الأميركية الجديدة لإغاثة غزة استجابة إنسانية خالصة، أم أنها تشكّل أداة سياسية لإعادة تشكيل البيئة المدنية ضمن أهداف ما بعد الحرب؟
أولًا: الخطة المعلنة... التفاف على الحصار أم تكريس له؟
بحسب وثائق إحاطة أممية وتصريحات لوزارة الخارجية الأميركية بتاريخ 8 مايو 2025، تتضمن الخطة الأميركية–الإسرائيلية الجديدة لإغاثة غزة مجموعة من الترتيبات التي تُقدَّم بوصفها "استجابة إنسانية مبتكرة"، بينما تكشف في العمق عن مقاربة أمنية–سياسية مغلَّفة بغطاء إغاثي، وتتضمن أبرز ملامح الخطة ما يلي:
- إنشاء عدد محدود من نقاط توزيع مركزية في جنوب قطاع غزة، بإدارة مؤسسة خاصة غير حكومية لا تتبع للأمم المتحدة.
- تمركز الجيش الإسرائيلي في محيط هذه النقاط، بذريعة "منع الجهات المعادية" من الوصول إليها.
- إقصاء الأونروا ومكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA) من أي دور تنفيذي مباشر، على خلفية مزاعم متكررة – وغير مثبتة – بتسريب مساعدات إلى حركة حماس.
- فرض نمط توزيع يُجبر المواطنين الفلسطينيين على قطع مسافات طويلة للوصول إلى هذه النقاط، ما يخلق شروطًا شاقة للحصول على المساعدات.
- استخدام مؤسسة تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Foundation – GHF)، حديثة النشأة، كمشغل رئيسي للعمليات اللوجستية.
لكن هذه العناصر مجتمعة لا تعكس مجرد تغيّر إداري في نمط توزيع الإغاثة، بل تعيد تعريف العلاقة بين المساعدات والسكان، من خلال نقل المساعدات من آلية جماعية شاملة إلى أداة موضعية مشروطة، ففي السابق، كانت هناك شبكة ميدانية تضم ما يزيد عن 400 نقطة توزيع تغطي مناطق قطاع غزة كافة، وتدار غالبًا من قبل الأونروا والبلديات المحلية، ضمن آلية تحترم مبدأ القرب الجغرافي والحياد المؤسسي، أما الآن، فإن النظام الجديد يستبدل هذا النموذج بشبكة محدودة متمركزة في الجنوب، ويخلق ما يشبه "مراكز تجمّع قسري" قد تؤدي إلى تكدّس سكاني خطير، وتحويل "تلقي المساعدة" إلى ممر إجباري للتهجير الناعم من الشمال إلى الجنوب.
وهذا ما حذّر منه تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (UNOCHA) في 9 مايو 2025، حيث اعتبر أن:
"النموذج المقترح يعكس مقاربة لا إنسانية تخالف مبادئ الوصول الآمن والمتوازن، وقد يؤدي إلى انهيار منظومة التوزيع لصالح هندسة سكانية تتماشى مع الأهداف العسكرية–السياسية القائمة."
في هذا السياق، يصبح السؤال الجوهري: هل تسعى الخطة لتجاوز آثار الحصار أم لتثبيته بصيغة إغاثية جديدة؟
فبدلاً من رفع الحصار والسماح بمرور المساعدات من المعابر القائمة، يتم إنتاج بديل لوجستي مؤمَّن عسكريًا يضمن بقاء السيطرة الإسرائيلية على تدفق الغذاء والدواء، وتحديد من يحق له الاستفادة منها، وكيف، وأين.
الأخطر من ذلك أن التركيز الجغرافي على الجنوب يعكس محاولة لتكريس واقع ديموغرافي–سياسي جديد، عبر فرض النزوح كشرط غير معلن للبقاء على قيد الحياة، فالأهالي الذين يرفضون مغادرة شمال القطاع – رغم الدمار الواسع – يواجهون خيارين قاسيين: المجاعة أو النزوح الذاتي القسري. وهذه المعادلة تقترب – في جوهرها – من نموذج "الإخلاء القسري الهادئ" الذي مارسته قوى استعمارية عدة في سياقات تاريخية مشابهة.
ثانيًا: البُعد السياسي للخطة – إعادة تشكيل البيئة المدنية كجزء من أهداف الحرب
قبل التطرق إلى الدلالات السياسية لخطة المساعدات الأميركية، من الضروري التوقف عند الجهة التي أوكلت إليها مهمة تنفيذ هذه الخطة، وهي ما يُعرف باسم "مؤسسة غزة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Foundation - GHF)، والتي تشكّل بحد ذاتها دلالة سياسية عميقة تتجاوز الظاهر الإغاثي للوظيفة المعلنة.
مؤسسة غزة الإنسانية (GHF): الهيكل والغرض والدلالات
الهيكلية والنطاق:
تتألف المؤسسة من متعاقدين أمنيين أميركيين، وضباط عسكريين سابقين، ومسؤولين في مجال الإغاثة، وتنطوي خططها على إنشاء أربعة مراكز توزيع للمساعدات، حيث تخدم كل منها نحو 300,000 شخص، مع إمكانية التوسّع لتغطية مليوني شخص في قطاع غزة، ومن المتوقع أن تُدار هذه المراكز أمنيًا بواسطة شركات خاصة، وتُستخدم فيها مركبات مدرعة لنقل المساعدات.
تُظهر هذه الهيكلية الأمنية والتوسع المُتوقع للمراكز، كيف أن الخطة ليست مجرد استجابة إنسانية للمحنة، بل جزء من إعادة تشكيل البنية المدنية في غزة بشكل يتماشى مع الأهداف الاستراتيجية والـ"أمنية" للأطراف المؤثرة، كما أن استخدام الشركات الخاصة والمركبات المدرعة يؤكد على أن المساعدات الإنسانية أصبحت أداة ضبط وتحكم، لا مجرد أداة إغاثية.
القيادة والتوظيف السياسي:
من الجدير بالذكر أن المؤسسة تتفاوض مع ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأغذية العالمي والحائز على جائزة نوبل للسلام، لتولي إدارة هذه المؤسسة، هذا التحرك يعكس محاولة لإضفاء شرعية إنسانية دولية على مشروع سياسي–أمني بحت، بيزلي، رغم تاريخه في العمل الإنساني، يُعتبر شخصية مثيرة للجدل في هذا السياق، إذ تُمثل شرعيته الأخلاقية غطاءً لتمرير خطة لا إنسانية قد تُغطي خلفيتها السياسية الاستراتيجية.
قراءة في دلالات تشكيل المؤسسة:
- خصخصة العمل الإنساني وتفكيك المنظومة الأممية
تأسيس "مؤسسة غزة الإنسانية" خارج إطار الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية يتماشى مع هدف أميركي–إسرائيلي منهجي يقضي بتقويض دور الأمم المتحدة في غزة، وخاصة بعد الحملة الواسعة لتجفيف الموارد ضد وكالة الأونروا، في هذا السياق، الاعتماد على كيان خاص يُظهر رغبة في تقليص الرقابة الدولية، مما يمنح الإدارة الأميركية مرونة أكبر في التحكم بالمساعدات وشروطها.
تُظهر هيومن رايتس ووتش في تقريرها لعام 2024 أن “حرف المساعدات الإنسانية عن الإطار التقليدي للأمم المتحدة يؤدي إلى تفكيك النظام الإنساني الدولي بأكمله، وتحويل العمل الإغاثي إلى أداة خاضعة لاعتبارات سياسية وجغرافية”، مما يعزز تسييس المساعدات وفصلها عن الحقوق الإنسانية الأساسية.
- أمننة الإغاثة وتحويل المساعدات إلى أداة ضبط
الوجود المتزايد لضباط ومتعاقدين أمنيين ضمن بنية المؤسسة يدل على أن المساعدات تُستخدم كأداة للتحكم في التحركات السكانية، على الرغم من أنها تُقدَّم على أنها مساعدات إنسانية، يبرز إقحام الأمن العسكري في الإغاثة، حيث يتم تمركز المساعدات في المناطق الجنوبية للقطاع، في محاولة لـإعادة تشكيل الواقع الجغرافي والسياسي، بما يعزز الواقع الديمغرافي–السياسي الجديد.
كما يُحذّر تقرير صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في 2024 من أمننة المساعدات الإنسانية، مما يهدد استقلالية العمل الإغاثي ويحول تلك المساعدات إلى أداة للضغط السياسي على السكان، وهو ما يساهم في مزيد من التفكك الاجتماعي والاقتصادي.
- استخدام الشرعية الأخلاقية كغطاء استراتيجي
محاولة تعيين شخصية مثل ديفيد بيزلي، المعروف دوليًا بتاريخه الإنساني، لتولي إدارة "مؤسسة غزة الإنسانية" تعكس استراتيجية استخدام الشرعية الأخلاقية كغطاء استراتيجي لمشروع يتمحور حول التأثير السياسي، محاولة إضفاء مصداقية دولية على الخطة من خلال توظيف الرمزية الإنسانية له عواقب بعيدة المدى، حيث يُسمح للمشروع بالتمدد في منطقة تشهد ظروفًا إنسانية قاسية تحت شعار الإنقاذ الإنساني، مما يخفي الطابع الاستراتيجي والسياسي.
- التحكم الأميركي المباشر بالمساعدات كأداة تفاوضية
تشكّل مؤسسة غزة الإنسانية خروجًا عن النموذج التقليدي القائم على وسطاء دوليين، مما يمنح الولايات المتحدة قدرة غير مسبوقة على استخدام المساعدات كـ ورقة ضغط لتحقيق أهدافها السياسية، في هذا السياق، يمكن للولايات المتحدة التحكم في الجهات المستفيدة من المساعدات، بالإضافة إلى تقليص دور حركة حماس، دون اللجوء إلى مواجهة مباشرة معها. هذه القدرة على إدارة المساعدات تُمثل تحولًا جذريًا في آليات العمل الإنساني التقليدية، وتؤكد تحول المساعدات إلى أداة تفاوضية.
- تمهيد لتحولات هيكلية في إدارة غزة
إن تأسيس "مؤسسة غزة الإنسانية" لا يبدو كتوجه مؤقت، بل كجزء من إعادة هيكلة أساسية لنظام الحوكمة الإنسانية في غزة، ويُحتمل أن تتحول المؤسسة إلى منصة دائمة لإدارة مناطق "فقاعات إنسانية"، حيث تُفصل الإغاثة عن التمثيل الوطني والرقابة الدولية، يُحذّر تقرير الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (2024) من أن أي محاولة لفصل الإغاثة عن السياسة الوطنية تهدد بتهميش دور الفصائل الفلسطينية وتُعمق الانقسامات المحلية، مما يعزز الهيمنة السياسية على المنطقة.
ثالثًا: الخطة من منظور القانون الدولي والآثار الإنسانية المحتملة
على الرغم من ادعاء الخطة الأميركية بأنها تُمثل استجابة إنسانية عاجلة لمعاناة سكان قطاع غزة، فإن تحليلًا قانونيًا معمقًا يكشف عن خرقها لعدة مبادئ أساسية في القانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف الرابعة، التي تُنظم حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، وكذلك فإن الخطة تعرض الآثار الإنسانية للكارثة بشكل يفوق آثار الأزمة نفسها، وتحمل في طياتها عناصر من التجويع القسري كأداة حرب، وهو ما يُعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
- المساعدات كوسيلة للإخضاع لا للنجدة
عند التدقيق في تفاصيل الخطة، يبدو جليًا أن الهدف منها يتجاوز مجرد توزيع الإغاثة الإنسانية، بل تسعى إلى استخدام المساعدات كوسيلة للضغط السياسي والإقناع، ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون المساعدات الإنسانية حقًا غير مشروطًا، تُحوَّل في هذه الحالة إلى قيد سياسي وجغرافي، حيث تُجبر الأسر الفلسطينية على الانتقال إلى الجنوب للحصول على الطعام والدواء، ما يُعتبر ضمنًا تهجيرًا قسريًا أو على الأقل ممارسة ضغوط غير مباشرة لدفع السكان إلى مغادرة مناطقهم الأصلية.
وفي هذا السياق، حذر المنتدى الدولي للقانون الإنساني في تقريره عام 2024 من أن "التحكم في توزيع المساعدات ضمن نطاق جغرافي محدود يعارض تمامًا مبدأ الحياد، ويحول المساعدات إلى أداة مساومة، بدلاً من أن تكون وسيلة للنجاة،" وبالمثل، أدانت منظمة العفو الدولية في تقريرها عن الأوضاع في غزة (2024) استخدام القيود الجغرافية كأداة تجويع وإقصاء بشري.
- المسؤولية القانونية عن تجويع السكان
وفقًا للبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التجويع كأداة حرب يُعد جريمة حرب في حد ذاته، إذ ينص البروتوكول على أنه:
"يحظر تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، سواء كان ذلك بالحصار أو بتقييد وصول المساعدات الإنسانية."
ومع استمرار الحصار على قطاع غزة، وتقييد وصول المواد الأساسية، تصبح المساعدات التي تُقدم وفقًا لهذه الخطة أداة لتجويع السكان بدلًا من تخفيف معاناتهم، ووفقًا لتقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2024، فإن الحصار المفروض على قطاع غزة، والذي يتضمن القيود الشديدة على توريد المواد الغذائية والطبية، قد أدى إلى تجويع ممنهج يرقى إلى كونه عقابًا جماعيًا، ما يُشكّل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي الإنساني.
ومن خلال تقديم المساعدات عبر "مؤسسة غزة الإنسانية" بشكل محدد جغرافيًا ومشروطًا أمنيًا، يُمكن رؤية ذلك كإعادة تكريس الحصار في شكل جديد، ما يعزز الانتهاكات المستمرة ويُشرعِنُها دون أي تدخل دولي فعال.
- إقصاء الأمم المتحدة: تسييس العمل الإنساني
في سياق الخطة، يتضح أن إقصاء الأمم المتحدة عن إدارة المساعدات يعكس تحولًا خطيرًا في طبيعة العمل الإنساني، حيث تم استبعاد الأونروا، ومكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA)، من آليات تنفيذ المساعدات، وهو ما يُعد تحديًا للمبدأ الدولي الذي ينص على أن العمل الإغاثي يجب أن يتم دون تسييس أو فرض شروط أمنية، بل يجب أن يظل محايدًا ونزيهًا.
المؤسسة المُختارة، "مؤسسة غزة الإنسانية"، هي كيان خاص يفتقر إلى الحياد السياسي الذي تتمتع به وكالات الأمم المتحدة، مما يفتح المجال لاستخدام المساعدات الإنسانية كوسيلة ضغط سياسي، وفي هذا السياق، يرى برنامج الأغذية العالمي (WFP) في تقريره الصادر في 2023، أن "إعطاء التحكم الكامل في المساعدات لجهات غير محايدة يُهدِّد مصداقية النظام الإنساني الدولي برمته، ويعزز من تسييس المساعدات بشكل غير مسبوق".
هذا التوجه لا يتعارض فقط مع مبدأ الحياد، بل يُعتبر تحويلًا للمساعدات الإنسانية إلى أداة ضغط سياسي لا تُلبِّي احتياجات السكان بقدر ما تخدم أهدافًا استراتيجية أكبر، هذا التوجه يشكل خطورة على استقلالية العمل الإنساني، ويزيد من المعاناة البشرية في وقت لا يزال فيه سكان غزة يعيشون في ظروف لا إنسانية مدمرة، حيث يُعتبر التضييق على المساعدات أحد أكثر أشكال العقوبات الجماعية صرامة.
- الآثار الإنسانية: تحويل المعاناة إلى سجن مفتوح
إن الآثار الإنسانية لهذه الخطة تتجاوز مجرد فرض أعباء إضافية على المواطنين، بل تتمثل في تكرار الصدمات النفسية والإنسانية، حيث تُصبح عملية الحصول على المساعدات من خلال مراكز مغلقة وعسكريَّة بمثابة طقوس مهينة، ويُتوقع أن تتحول حياة السكان إلى مسار من الاستسلام تحت الإكراه، بدلًا من أن تُعامل المساعدات كحق إنساني أساسي.
وقد بيَّن تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين في تقريرها الأخير، أن التهجير القسري، حتى وإن كان غير مباشر، يُسهم في تقويض الكرامة الإنسانية للسكان، حيث يصبح التهجير هو الخيار الوحيد للبقاء على قيد الحياة.
رابعا: خلاصة واستنتاجات:
تأتي الخطة الأميركية الجديدة للمساعدات الإنسانية إلى غزة في لحظة سياسية وأمنية شديدة التعقيد، حيث تتقاطع فيها الاعتبارات العسكرية، والتطلعات التفاوضية، والضغوط الدولية المتزايدة على الاحتلال، ولكن، عند تحليل مضمون الخطة وسياقاتها، يتضح أنها لا تندرج ضمن إطار الاستجابة الإنسانية النزيهة، بل هي في جوهرها مقاربة جيوسياسية تهدف إلى إعادة تشكيل البيئة المدنية في قطاع غزة بما يتماشى مع الترتيبات ما بعد الحرب، حيث تُستخدم المساعدات كأداة لتوجيه الأوضاع وفقًا للأهداف السياسية–الأمنية للإسرائيليين والأميركيين.
إقصاء الأمم المتحدة والأنروا، والتخلي عن آليات التوزيع التقليدية التي كانت تعتمد على 400 نقطة توزيع في القطاع، لصالح إنشاء مراكز توزيع مركزية محدودة في الجنوب، يكشف عن توجهات استراتيجية غير إنسانية تهدف إلى خلق واقع ديمغرافي جديد قد يُصنف كنظام احتلالي مقنع وهذا التوجه، بالإضافة إلى ربط الإغاثة بحركة جغرافية قسرية للسكان، يشير إلى أن الخطة هي جزء من مشروع أكبر لتفكيك التراكمات الإنسانية لصالح توجهات أمنية تُفضي إلى إدامة الصراع بدلًا من حلّه.
لا تقتصر الخطة على تجاهل الآليات المعمول بها سابقًا في إطار الإغاثة، بل تعمل على إعادة هندسة الكارثة الإنسانية في غزة، مما يعمّق مأساة السكان ويزيد من تفاقمها، في هذا السياق، الرفض الدولي الواسع للخطة من قبل المنظمات الإنسانية والدول الفاعلة يعكس القلق من استغلال المساعدات كأداة للضغط السياسي والتحكم السكاني.
في ظل هذه المعطيات، لا تبدو هذه الخطة سوى امتداد لفلسفة "الفُقاعات الإنسانية"، التي تهدف إلى تجميد الأزمة وليس حلّها، فهي، بدلًا من معالجة جذور الصراع والمعاناة، تحوّل الضحية إلى طرف مشتبه به، ينبغي مراقبته وتحريكه ضمن خطوط مرسومة مسبقًا، مما يرسخ واقعًا من الضغوط والسيطرة على سكان القطاع.
خامسًا: توصيات المركز:
للفلسطينيين والمؤسسات الفاعلة:
- رفض الخطة كمحدد سياسي لا إنساني فقط، والعمل على تعرية أهدافها عبر أدوات الضغط القانوني والدبلوماسي.
- التمسك بالمرجعية الدولية في العمل الإنساني، لا سيما دور الأونروا ومكاتب الأمم المتحدة، ورفض محاولات خصخصة الإغاثة.
- توثيق الانتهاكات المحتملة الناتجة عن تنفيذ الخطة، وخاصة ما يتعلق بالتهجير غير المباشر والتعرض للنهب أو الاستهداف أثناء التنقل.
- فضح الطابع الانتقائي للنهج الأمريكي، عبر مقارنته بمواقف واشنطن من أزمات إنسانية أخرى تتبع فيها مبادئ مغايرة.
للمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية:
- إصدار موقف مشترك يعارض تسييس المساعدات، ويدعو إلى عودة النظام الإنساني الدولي المحايد في غزة.
- فتح تحقيق في مدى توافق الخطة مع القانون الدولي الإنساني، خاصة فيما يتعلق بالتجويع والتهجير القسري.
- الضغط من أجل إنهاء شامل للحصار، بدلًا من الإذعان لحلول جزئية قد تخلق سابقة خطيرة في مناطق نزاع أخرى.