عملية مراكب جدعون: الميدان كأداة تفاوض أم طريق للهروب من المأزق السياسي

مركز الدراسات السياسية والتنموية
مقدمة
في تحول على مسار الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، صادق المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينت) في بداية أيار/مايو 2025 على تنفيذ عملية عسكرية جديدة موسعة تحت اسم "مراكب جدعون"وتشكل هذه العملية تصعيدًا لافتًا في طبيعة التكتيك العسكري الإسرائيلي، حيث تهدف، وفق ما رشح من مصادر رسمية وإعلامية عبرية، إلى زيادة الضغط العسكري الميداني بهدف تحسين شروط التفاوض، لا سيما في ملف استعادة الجنود والأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس، وذلك ضمن ما بات يُعرف إسرائيليًا بـ"المفاوضات تحت النار".
يتناول هذا التقدير طبيعة هذه العملية العسكرية، وخلفياتها السياسية والعسكرية، والسياقات التي دفعت نحو اتخاذ قرارها في هذا التوقيت بالذات، كما يُسلّط الضوء على أهداف العملية المعلنة والخفية، ومضامينها الرمزية والاستراتيجية، وانعكاساتها على ميدان المعركة وعلى مسار المفاوضات غير المباشرة الجارية، وتنطلق الورقة من فرضية أساسية مفادها أن هذه العملية ليست مجرد تطور ميداني معزول، بل هي جزء من استراتيجية ضغط مركّبة تسعى حكومة الاحتلال من خلالها إلى تغيير قواعد اللعبة في القطاع، عبر الدمج بين التصعيد العسكري والاجتياح البري والضغوط الإنسانية والنفسية على السكان، بما يخدم أهدافًا تفاوضية وأجندات سياسية داخلية وخارجية.
وستحاول الورقة الإجابة عن عدد من الأسئلة المحورية، من أبرزها:
- ما هي الأهداف الحقيقية لعملية "مراكب جدعون"؟
- ما مدى جدوى هذه العملية في تحقيق مكاسب تفاوضية أو ميدانية؟
- إلى أي مدى تعكس العملية تحولات في العقيدة العسكرية والسياسية الإسرائيلية تجاه غزة؟
- وما هي التداعيات المحتملة لهذه العملية على المسار السياسي، وعلى مستقبل الحرب والمفاوضات في آنٍ معًا؟
من خلال هذه الأسئلة، يسعى التقدير إلى تحليل أبعاد "مراكب جدعون" بوصفها محاولة إسرائيلية لفرض شروط جديدة على معادلة الحرب والتسوية في غزة، في لحظة إقليمية ودولية حرجة، تتقاطع فيها الحسابات السياسية الداخلية في الكيان الإسرائيلي مع تطورات الموقف الأميركي وارتداداته على المنطقة بأسرها.
عملية "مراكب جدعون" – الخلفيات والدلالات
تحمل عملية "مراكب جدعون" اسمًا ذا حمولة دينية وتاريخية واضحة، إذ تُنسب التسمية إلى "جدعون بن يوآش"، أحد قضاة بني إسرائيل بحسب الرواية التوراتية، والذي يُصوَّر كمن "أنقذ شعب إسرائيل" من الكنعانيين والعمالقة في "أرض الميعاد"، ويُفهم من هذه التسمية أن القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية أرادت إضفاء بعد رمزي–عقائدي على العملية، يوحي بـ"التحرير" أو "الخلاص" من عدو يُصور على أنه متجذر في التاريخ والجغرافيا الفلسطينية، بما يُضفي على الحملة طابعًا وجوديًا يتجاوز الاعتبارات العسكرية البحتة.
في الخامس من أيار/مايو 2025، صادق المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) على خطة عسكرية موسعة أعدّها رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الجديد إيال زامير، بالتعاون مع كبار قادة الأركان، وتهدف إلى توسيع نطاق العمليات العسكرية في قطاع غزة بشكل غير مسبوق منذ بداية الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023، ووفقًا لما أوردته القناة الإسرائيلية الرسمية (كان 11)، تتضمن الخطة استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، وإعادة تشكيل خارطة العمليات الميدانية في القطاع، من خلال اجتياحات برية واسعة النطاق، والسيطرة المؤقتة أو الدائمة على مناطق محددة، ومسحها أمنيًا بهدف ضرب البنية السلطوية والعسكرية لحركة "حماس" .
وتركز الخطة على تحقيق جملة من الأهداف، أبرزها:
- حسم المعركة ميدانيًا أو على الأقل كسر قدرة "حماس" على فرض شروطها التفاوضية.
- السيطرة المباشرة على مناطق واسعة داخل القطاع، بما في ذلك بعض المخيمات والمراكز الحضرية.
- عزل مناطق بعينها جغرافيًا بهدف تسهيل التحكم فيها أمنيًا وإداريًا.
- إضعاف قدرة "حماس" على ممارسة الحكم والإدارة المحلية، من خلال استهداف البنية التحتية المدنية والخدماتية التي ترتبط بالحركة.
- إحداث حركة سكانية مدروسة نحو مناطق محددة مثل محور "موراغ" جنوب خان يونس، حيث تسعى حكومة الاحتلال إلى إنشاء مراكز فرز ومساعدات إنسانية تخضع لرقابة أمنية مشددة، بما يُمكّنها من تطبيق سياسة "العصا والجزرة" عبر الفصل بين المواطنين الفلسطينيين والمشتبه بانتمائهم للفصائل المسلحة، وتحديدًا "حماس".
ويبدو من تكامل هذه الأهداف أن العملية لا تندرج فقط ضمن إطار التصعيد العسكري، بل تمثل محاولة لإعادة رسم الواقع الجيوسياسي والديمغرافي في قطاع غزة، وإضعاف حماس سياسيًا وشعبيًا، مع تحقيق مكاسب تفاوضية فيما يخص ملف الأسرى الإسرائيليين، الذين أعيد تصنيفهم مؤخرًا من قبل المؤسسة الأمنية باعتبارهم "رهائن" .
تهميش قضية استعادة الأسرى: انقلاب على الأولويات المعلنة
تمثل عملية "مراكب جدعون" نقلة نوعية في أهداف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن تراجع واضح في الأولويات، لا سيما فيما يتعلق بقضية استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس، فوفقًا للمراسل العسكري لصحيفة "هآرتس"، يانيف كوفوفيتش، فإن خطة "جدعون" تنطوي على انقلاب صريح على التراتبية التي طالما رُوّج لها من قبل القيادة العسكرية والسياسية في إسرائيل، إذ هبط هدف استعادة الأسرى من المرتبة الثانية إلى السادسة، أي أنه بات في ذيل قائمة الأهداف خلف أولويات عسكرية ميدانية أكثر إلحاحًا.
وأشار كوفوفيتش، في تقرير نُشر في 7 أيار/مايو الجاري، إلى أن هذا التغيير جاء رغم التصريحات العلنية من كل من رئيس الأركان والمتحدث باسم الجيش بأن إنقاذ الأسرى يشكل أولوية قصوى، غير أن التصريحات تناقضت مع القرارات الفعلية؛ إذ تم تغيير التصنيف الرسمي للأسرى من "مختطفين" إلى "رهائن"، ما يُفهم منه تمييعٌ للصفة الأخلاقية والقانونية التي استُخدمت سابقًا لحشد التأييد الشعبي والعسكري حول قضيتهم.
وفي شهادة لافتة من داخل المؤسسة العسكرية، نقل كوفوفيتش عن أحد المشاركين في جلسة مصادقة الكابينت على الخطة قوله إن الحاضرين "صُدموا" من هذا التغيير الجذري، لكنه مرّ دون اعتراض يُذكر، وأضاف المصدر: "لقد تم تهميش الهدف الأسمى، استعادة المختطفين، وتحويله إلى مجرد بند ثانوي في قائمة أهداف سياسية وعسكرية موسّعة".
هذا التغيير أثار انتقادات واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي، لا سيما من قبل عائلات الأسرى والمنظمات الداعمة لهم. فقد أصدرت حركة "أمهات من أجل الجبهة" بيانًا شديد اللهجة عبر صحيفة "هآرتس"، اتهمت فيه الحكومة بتحويل الحرب إلى معركة بقاء سياسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، محذّرة من أن إعادة ترتيب الأولويات "يعني الحكم بالموت على من تبقى من الأسرى"، وأشارت المنظمة إلى تحذير وجهه قائد الأركان إلى الكابينت بأن استمرار العملية العسكرية بهذا الشكل قد يودي بحياة الأسرى ويقوّض أي فرصة مستقبلية لاستعادتهم.
وفي السياق ذاته، قال اللواء عاموس يدلين، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، إن نتنياهو "يدفن مستقبل إسرائيل في رمال غزة"، معتبرًا أن رفضه لوقف الحرب والموافقة على حلول دبلوماسية يعود إلى سعيه للبقاء السياسي على حساب المصالح القومية، وفي مقال نشره على موقع القناة 12 العبرية بتاريخ 10 أيار/مايو، أكد يدلين أن "إسرائيل" تجاوزت النقطة التي يمكن فيها تحقيق أهداف الحرب عبر العمل العسكري وحده، مضيفًا أن "الذهاب خلف وهم النصر الكامل لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة الإقليمية والدولية".
كما حذر يدلين من أن التهميش المتعمد لقضية الأسرى قد يؤدي إلى تآكل الدعم الشعبي لتجنيد جنود الاحتياط، وهو ما يدفع الجيش إلى التمسك ظاهريًا بشعار "استعادة الأسرى أولوية"، رغم أن الأولويات الفعلية التي أقرها المستوى السياسي لا تدعمه، وفي تطور بالغ الدلالة، كشف يدلين عن إجراء إدارة ترامب محادثات مباشرة مع حركة حماس، خلف ظهر إسرائيل، من أجل الإفراج عن رهائن أميركيين، وهو ما يعكس عمق تراجع الدور الإسرائيلي في إدارة المشهد الإقليمي.
وفي الوقت الذي تُهمّش فيه قضية الأسرى، يرى مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) أن عملية "جدعون" تسعى في جوهرها إلى تنفيذ رؤية سياسية أكبر، تشمل احتلالاً كاملاً للقطاع، وتهجير السكان إلى جنوبه، وفتح الباب أمام موجات هجرة جماعية، بما يتماهى مع الطروحات الأميركية حول مستقبل غزة.
وبينما يؤكد المحلل العسكري رون بن يشاي أن العملية قد تحقق إنجازات ميدانية إذا دعمت بخطة سياسية موازية، يشير آخرون إلى أن هذه العملية تحمل في طيّاتها مخاطر استراتيجية، قد تدفع الكيان نحو عزلة متزايدة، وتعرّضه لخسائر بشرية واقتصادية جسيمة، من دون أي ضمان لاستعادة الأسرى أو القضاء على المقاومة.
"نتنياهو يدفن مستقبلنا في رمال غزة"
يُجمع عدد من كبار الخبراء العسكريين والسياسيين الإسرائيليين على أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يستثمر الحرب في قطاع غزة كوسيلة لضمان بقائه السياسي، ولو على حساب المصالح الإستراتيجية لكيانه، وفي مقدمتها استعادة الأسرى، ووفقًا لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق "عاموس يدلين"، فإن نتنياهو يتعمّد إطالة أمد الحرب، رغم استنفاد معظم أهدافها العسكرية، في محاولة يائسة لإنقاذ حكومته من الانهيار، حتى وإن كان الثمن هو "دفن مستقبل إسرائيل في رمال غزة"، على حدّ وصفه.
ففي مقال نشره موقع القناة "12" العبرية بتاريخ 10 أيار/مايو 2025، قال يدلين – الذي شغل أيضًا منصب مدير معهد دراسات الأمن القومي – إن الحكومة الإسرائيلية الحالية باتت أسيرة حالة "إدمان الحرب"، وتُقصي نفسها عن مشهد الترتيبات الإقليمية التي بدأت تتشكل في أعقاب زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، وأضاف: "في الوقت الذي تُقسَّم فيه الكعكة الجيوسياسية بين الدول الكبرى والإقليمية، نجد أن "إسرائيل" تبتعد عن الطاولة، نتيجة قرارات سياسية قصيرة النظر".
وحذّر يدلين من أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى عزلة دولية خانقة، وإلى فقدان "إسرائيل" للفرصة التاريخية في تعزيز تحالفاتها، وخاصة مع دول الخليج، وشكّك في جدوى ما وصفه بـ"سراب النصر المطلق على حماس"، معتبرًا أن مثل هذا الهدف غير واقعي سياسيًا أو عسكريًا، وقال: "بلغنا الذروة في استخدام القوة العسكرية، وآن أوان ترجمة الإنجازات المحدودة على الأرض إلى مكاسب سياسية عبر وقف الحرب والدخول في ترتيبات إقليمية تشمل صفقة تبادل للأسرى وتطبيعاً مع السعودية".
وشدّد يدلين على أن وقف الحرب في هذا التوقيت لا يعني الانسحاب أو الهزيمة، بل هو استثمار في اللحظة السياسية المناسبة، مؤكدًا أن حماس فقدت قدرتها على تكرار هجوم 7 أكتوبر، وأن الجيش الإسرائيلي لم يعد بحاجة للمزيد من التصعيد لتحقيق الردع.
كما حذّر من أن مواصلة الحرب بلا جدوى ستؤدي إلى فقدان "إسرائيل" لمكانتها، وزيادة عزلتها الدولية، وقد تدفع بالإدارة الأميركية إلى التدخّل المباشر لفرض إنهاء الحرب أو التخلي عن المسألة برمتها وترك "إسرائيل" تواجه المأزق بمفردها، بعيدًا عن مشاريع "الهايتك" والصفقات العملاقة التي يُحضّر لها ترامب مع دول المنطقة.
فقدان الأمن القومي
في ظل تعنّت الحكومة الإسرائيلية وإصرارها على مواصلة الحرب في قطاع غزة دون استراتيجية خروج واضحة، يُحذّر عدد من كبار المسؤولين والخبراء الأمنيين الإسرائيليين من أن هذا المسار لا يهدد فقط الإنجازات الميدانية، بل يُقوّض أيضًا أسس الأمن القومي الإسرائيلي، وعلى رأسها العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة.
ويرى عاموس يدلين، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) ومدير معهد دراسات الأمن القومي، أن الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب بدأت في توجيه رسائل صريحة من السخط على الأداء الإسرائيلي في غزة. وفي هذا السياق، كشف يدلين أن ترامب أدار محادثات مباشرة مع حركة حماس – دون تنسيق مع تل أبيب – بهدف إطلاق سراح الرهائن الأميركيين، وقد نجح بالفعل في التوصل إلى اتفاق شمل إطلاق سراح الجندي الأميركي "عيدان ألكساندر".
واعتبر يدلين أن هذا التطور يشكّل "ذروة تهميش إسرائيل في المشهد الإقليمي"، ويعكس تراجع ثقة واشنطن في قدرة تل أبيب على حسم الملف الفلسطيني أو تقديم حلول قابلة للتنفيذ، محذّرًا من أن "إسرائيل لم تعد تساعد نفسها، بل تعرقل كل المبادرات".
وفي هذا السياق، أشار يدلين إلى أن مواصلة الحرب بدون تنسيق مع الحليف الأميركي قد تُفضي إلى نتائج كارثية، من ضمنها وقف الدعم العسكري الأميركي في لحظات حرجة، أو اتخاذ خطوات تضعف التفوّق النوعي لإسرائيل في المنطقة، ووفقًا لمصادر إعلامية عبرية، فقد نقل عن نتنياهو خلال اجتماع لجنة الخارجية والأمن بالكنيست قوله: "يجب أن نخفف من اعتمادنا الكامل على المساعدات الأميركية".
ويعكس هذا التصريح، بحسب يدلين، عمق المأزق الذي أدخلت فيه الحكومة نفسها، حيث تُهدد المكابرة السياسية بالقطيعة مع أهم حليف إستراتيجي للكيان الإسرائيلي منذ تأسيسه.
وفي ختام مقاله، دعا يدلين نتنياهو إلى اللحاق بقافلة ترامب قبل فوات الأوان، بدلًا من رهن مصير الدولة بيد حفنة من المتطرفين في حكومته، وشدّد على أن إطالة أمد الحرب بهدف إطالة عمر الحكومة يُعرّض إسرائيل لعزلة دولية غير مسبوقة، ويزيد من فرص فقدان الأسرى وأرواح الجنود، فضلًا عن الإضرار الجسيم بالاقتصاد الوطني والقدرات العسكرية الإسرائيلية في المدى البعيد.
فرص نجاح العملية
رغم التصعيد الكبير الذي تشهده عملية "مراكب جدعون"، فإنّ الأوساط العسكرية والإعلامية الإسرائيلية لا تُجمع على قدرتها على تحقيق إنجازات حاسمة أو دائمة، بل إنّ كثيرًا من التقديرات تحذّر من أن أي إنجازات ميدانية قد تتحقّق ستكون مؤقتة، ما لم تُرفَد بخطوات سياسية تواكبها.
ويعتقد المحلل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي، أن العملية قد تُسفر عن مكاسب عسكرية ملموسة بفضل الدروس المستخلصة من الحملات السابقة، إلا أنه شدّد على أن هذه المكاسب ستتآكل بسرعة ما لم تُستثمر سياسيًا، وفي مقال نشره بتاريخ 12 أيار، أشار بن يشاي إلى أن الجيش الإسرائيلي استعد بشكل أفضل من الحملات الماضية، مستفيدًا من خبراته المتراكمة منذ بدء الحرب، لكنه في المقابل شكّك في قدرة العملية على تحقيق نتائج ملموسة في ملف استعادة الأسرى، معتبرًا أن هدفها الأهم هو خلق "روافع ضغط" على حماس من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات، ضمن ما سمّاه "المفاوضات تحت النار".
ويرى بن يشاي أنه من غير الممكن القضاء التام على حركة حماس، باعتبارها "جزءًا من نسيج السكان في القطاع"، مشيرًا إلى أنّ العملية تستهدف في الواقع تفكيك حماس كسلطة حاكمة وقوة عسكرية منظّمة، تمهيدًا لعودة الاحتلال المباشر لبعض مناطق القطاع، وهو خيار كان الجيش قد رفضه مرارًا في السابق، لكن رئيس الأركان الحالي، إيال زامير، يبدو مصرًا على تجربته.
أما مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، فيذهب أبعد من ذلك في التحذير من مخاطر العملية، إذ يعتبرها بمثابة "احتلال كامل للقطاع"، يتضمّن تهجيرًا واسعًا للسكان جنوبًا نحو محور "موراغ"، تمهيدًا لفتح مسارات هجرة إلى الخارج، في سياق تطبيق رؤية الإدارة الأميركية الحالية بقيادة دونالد ترامب.
وفي ورقة تقدير موقف نُشرت ضمن سلسلة "نظرة عليا" بتاريخ 11 أيار، حذّر باحثا المركز عوفر غوترمان وأودي ديكل (الذي تولّى سابقًا رئاسة شعبة التخطيط الإستراتيجي في الجيش) من أن العملية ستكون "بالغة التعقيد"، وقد تُفضي إلى مقتل ما تبقّى من الأسرى، إلى جانب خسائر فادحة في صفوف الجيش وتكاليف اقتصادية باهظة، ناهيك عن المخاطر السياسية والحقوقية التي قد تترتب على ارتكاب انتهاكات واسعة بحق المدنيين.
وأشار التقدير إلى أن المجتمع الإسرائيلي لا يبدو مهيأً لتحمّل تبعات عملية عسكرية طويلة الأمد يشارك فيها عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، وأن "النفس الطويل" اللازم لمثل هذه الحملة قد لا يكون متوفراً.
وبالمقارنة بين خطة "جدعون" والمبادرة المصرية المطروحة لإنهاء الحرب، والتي تتضمن استبعاد حماس من الحكم وضمان استعادة الأسرى، يرى مركز INSS أن الخطة المصرية تضمن إنجاز الأهداف الجوهرية للحرب بتكلفة بشرية واقتصادية أقل بكثير، بخلاف "جدعون" التي قد تمتد شهورًا أو سنوات دون ضمان تحقيق الأهداف، خصوصًا أن "القضاء على حماس" لا يزال هدفًا فضفاضًا في ظل غياب رؤية سياسية واضحة لما بعد الحرب.
السيناريوهات المحتملة لمآلات خطة "مراكب جدعون"
في ضوء التطورات الميدانية، لا سيما بدء جيش الاحتلال بتنفيذ المراحل التمهيدية للخطة منذ 16 أيار الجاري عبر تكثيف القصف وتهجير مئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين شمال قطاع غزة، تبدو الخطة في شقها العسكري أداة لخلق روافع ضغط على حركة حماس تمهيدًا لإجبارها على تقديم تنازلات تفاوضية، وبناءً على المعطيات المتاحة، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
السيناريو الأول: العودة إلى طاولة المفاوضات بضغط أميركي – "مفاوضات تحت النار"
يستند هذا السيناريو إلى رؤية تقوم على مراكمة الضغط العسكري لتغذية مسار تفاوضي غير مباشر، بوساطة قطرية ومصرية، وبرعاية وضغط مباشر من الإدارة الأميركية، وقد تعزز هذا السيناريو بعد الإفراج عن الجندي الأميركي–الإسرائيلي عيدان أليكساندر، ما مثّل إنجازًا محدودًا للإدارة الأميركية دفعها لتكثيف جهودها بهدف إنقاذ رعايا آخرين ودفع العملية التفاوضية قُدمًا.
وتشير تقارير عبرية إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قرر مساء 17 أيار الإبقاء على طاقم التفاوض في الدوحة رغم العمليات العسكرية الجارية، بهدف استنفاد الفرص التفاوضية، فيما يستمر الجيش في ممارسة ضغوط ميدانية كثيفة على السكان، بهدف دفع حماس لتقديم تنازلات، خصوصًا فيما يتعلق بإنهاء الحرب مقابل صفقة تبادل.
وقد يُفضي هذا السيناريو إلى نتائج تدريجية تشمل:
- تهدئة مؤقتة مشروطة.
- استعادة عدد من الأسرى الإسرائيليين.
- بلورة إطار تفاوضي لاحق حول وقف الحرب ومصير القطاع.
المؤشرات المرجّحة:
- الضغوط الأميركية المتزايدة لإنهاء الحرب قبل دخول دونالد ترامب مرحلة التحالفات الإقليمية الكبرى.
- مؤشرات على استعداد حماس لقبول صيغة تبادلية جزئية مقابل وقف إطلاق النار.
- استمرار الوساطات القطرية والمصرية النشطة.
السيناريو الثاني: فشل التفاوض وتوسيع الاجتياح البري – "الخيار التصعيدي المفتوح"
في حال فشل مسار التفاوض، سواء بسبب تعنّت الأطراف أو فشل الوسطاء، فقد يتجه الكابينت الإسرائيلي إلى اتخاذ قرار بتفعيل المرحلة الثانية من خطة "مراكب جدعون"، والتي تتضمن:
- اجتياح بري واسع النطاق لعدة محاور داخل قطاع غزة.
- إشراك عدة ألوية عسكرية في قتال ميداني مباشر.
- تهجير إضافي واسع للسكان المدنيين باتجاه الجنوب.
- التمهيد لإقامة مراكز فرز ومساعدات لعزل السكان عن المقاتلين.
ورغم القدرة العسكرية الإسرائيلية على تنفيذ هذا السيناريو، فإن تكلفته ستكون باهظة، سياسيًا وعسكريًا، داخليًا وخارجيًا، في ظل التحذيرات الأميركية والأوروبية من اجتياح شامل، والتقارير الاستخباراتية الإسرائيلية التي تؤكد صعوبة كسر حماس بشكل كامل في بيئة مدنية معقّدة.
المؤشرات المرجّحة:
- تسريب قرار الجيش الإسرائيلي بإعداد العدة لعملية برية.
- الخطاب المتشدد لنتنياهو أمام الكابينت وتصعيده ضد حماس.
- استمرار التمهيد الإعلامي الإسرائيلي لمرحلة "العودة للاحتلال المباشر".
السيناريو الثالث: فرض تسوية أميركية - إقليمية – "حل بالإكراه"
في هذا السيناريو، تلجأ الولايات المتحدة، بالتنسيق مع بعض الحلفاء الإقليميين (مثل مصر، قطر، السعودية، الإمارات)، إلى فرض تسوية شاملة أو جزئية، تشمل:
- وقفًا فوريًا للعمليات القتالية.
- استعادة عدد من الأسرى ضمن صفقة أكبر.
- إقامة إدارة مدنية محلية في غزة بإشراف عربي، تُستبعد منها حماس كفاعل سياسي مباشر.
- بدء ترتيبات إقليمية أوسع تشمل اندماج الكيان الإسرائيلي في تحالفات جديدة.
وقد ألمحت تقارير عبرية وأميركية إلى وجود قنوات اتصال خلفية بين واشنطن وحماس، خصوصًا بعد الإفراج عن الجندي الأميركي، ما يفتح الباب أمام تدخل أميركي أكثر مباشرة.
المؤشرات المرجّحة:
- تصريحات المسؤولين الأميركيين عن "نفاد الصبر" من استمرار الحرب.
- تحذيرات مراكز بحثية إسرائيلية من إمكانية فرض وقف إطلاق النار من قبل إدارة ترامب.
- إشارة تقارير عبرية إلى مساعٍ أميركية لفكّ الاشتباك حتى دون تنسيق كامل مع حكومة نتنياهو.
ترجيح السيناريوهات
انطلاقًا من المعطيات الحالية، يمكن ترتيب السيناريوهات وفقًا لترجيح حدوثها على النحو التالي:
التعليق |
درجة الترجيح |
السيناريو |
يجمع بين الضغط العسكري والتحرك الدبلوماسي الأميركي والوساطات الإقليمية، ويمثل مخرجًا مرحليًا مقبولاً لجميع الأطراف. |
مرتفع |
السيناريو الأول (مفاوضات تحت النار) |
خيار قائم لكنه عالي الكلفة، ولا يحظى بإجماع داخلي إسرائيلي أو دعم أميركي. |
متوسط |
السيناريو الثاني (الاجتياح الكامل) |
مرهون بتصعيد الخلاف الأميركي–الإسرائيلي أو فشل السيناريو الأول بشكل حاسم، لكنه خيار واقعي في حال استمر نتنياهو في تجاهل الضغوط الدولية. |
متوسط إلى منخفض |
السيناريو الثالث (فرض تسوية أميركية) |
الخلاصة
تشكّل خطة "مراكب جدعون" تجسيدًا لاستراتيجية إسرائيلية مزدوجة الأهداف: الضغط العسكري المكثف لانتزاع تنازلات سياسية من حركة حماس، وتحقيق مكاسب داخلية لحكومة نتنياهو في ظل أزمتها السياسية المتفاقمة. فمن جهة، سعى رئيس حكومة الاحتلال إلى استثمار العملية كمخرج من أزماته القضائية والسياسية، وإرضاء أقطاب اليمين الساعي لإعادة هندسة الواقع الديموغرافي في غزة، سواء عبر التهجير القسري أو تركيز السكان في مناطق بعينها، ومن جهة أخرى، أراد جيش الاحتلال – تحت قيادة رئيس أركان جديد – توظيف العملية فرصة لاستعادة "هيبة الردع" وتعويض الإخفاقات السابقة، حتى لو جاء ذلك بمغامرة ميدانية محفوفة بالمخاطر، حذّر منها رئيس الاستخبارات العسكرية ذاته لما قد تحمله من تداعيات على مصير الأسرى الإسرائيليين في غزة.
ومع ذلك، تُواجه الخطة تحديات استراتيجية عميقة، في مقدّمتها ضعف دافعية قوات الاحتياط، التي تمثّل العمود الفقري لأي عملية برية موسعة، إضافة إلى المخاوف من وقوع خسائر بشرية كبيرة قد تفضي إلى تآكل الدعم الداخلي للعملية وفرض وقائع عسكرية مغايرة على الأرض، في المحصلة، تبدو "مراكب جدعون" محاولة لفرض وقائع سياسية عبر أدوات عسكرية، لكن حدود القوة قد تُفضي إلى نتائج عكسية إذا لم تُرفق برؤية استراتيجية قابلة للتحقق سياسيًا وميدانيًا.
توصيات المركز
- ضرورة تشكيل جبهة سياسية وإعلامية موحّدة، تضم الفصائل والمجتمع المدني، لفضح أهداف خطة "مراكب جدعون"، وخصوصًا نوايا التهجير وإعادة هندسة القطاع ديمغرافيًا.
- دعم صمود المواطنين في المناطق المستهدفة بالتهجير وتعزيز الجهود الشعبية والحقوقية والإغاثية في المناطق التي تشهد تهجيرًا قسريًا، وتقديم كافة أشكال الدعم للمدنيين للبقاء في أراضيهم ومحيطهم الجغرافي.
- توثيق الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق المواطنين، وإيصالها إلى المؤسسات القانونية الدولية كجزء من معركة الوعي والمحاسبة.
- كشف التناقض بين تصريحات قادة جيش الاحتلال والحكومة الإسرائيلية بشأن مصير الأسرى وجدوى استمرار الحرب، وتسليط الضوء على الأصوات الإسرائيلية المعارضة للعملية لتقويض رواية الإجماع الإسرائيلي.
- تفعيل القنوات الدبلوماسية والإعلامية لإبراز التقديرات الإسرائيلية التي تحذّر من المخاطر السياسية والإنسانية والعسكرية للعملية.
- العمل على حشد موقف عربي ودولي يرفض سيناريو التهجير أو فرض إدارة بديلة للقطاع دون توافق وطني فلسطيني.
- الطلب رسميًا من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إدانة عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ومطالبتها بإرسال لجان تقصّي حقائق وتفعيل آليات الحماية الدولية.
- توحيد الجهود السياسية للسلطة والفصائل للتعاطي مع المرحلة الحالية بمنطق الطوارئ الوطنية، بما يشمل تفعيل بعثات دبلوماسية فاعلة وذات خطاب موحد.