التدمير الممنهج لأرض غزة الخصبة: تداعيات بيئية وغذائية كارثية (2023–2025)

مركز الدراسات السياسية والتنموية
مقدمة
لم تكن الزراعة في قطاع غزة مجرد نشاط اقتصادي أو مصدر دخل للمزارعين، بل كانت العمود الفقري لصمود المجتمع الفلسطيني، ومصدر الغذاء الأساسي لمليوني إنسان يعيشون تحت الحصار، لكن، ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، تعرّضت الأراضي الزراعية في غزة إلى دمار ممنهج ومتواصل، طال كل شبر من الأرض الخصبة، وكل مقوّم من مقومات الإنتاج الزراعي والحيواني.
لقد أدت آلة الحرب إلى تجريف الحقول، وحرق المحاصيل، وتدمير آبار المياه، وملاحقة المزارعين في أراضيهم، لم تسلم البيوت البلاستيكية، ولا مزارع الدواجن، ولا حتى الأشجار المعمّرة من القصف والاستهداف المباشر، وبالتزامن مع عمليات التدمير، جاء الإغلاق الشامل للمعابر ومنع دخول البذور والأسمدة والمعدات الزراعية ليكمّل حلقة الحصار الخانق، ويفاقم من معاناة السكان الذين باتوا يواجهون مجاعة فعلية في ظل شحّ الموارد الغذائية وغياب البدائل.
انعكست هذه الكارثة الزراعية على كافة مناحي الحياة: فبعض الخضروات الأساسية مثل والبصل وكذلك الليمون اختفت من الأسواق، وأسعار ما تبقى من أصناف محدودة مثل البطاطا والبندورة ارتفعت إلى مستويات قياسية تفوق قدرة معظم السكان، وبينما يعاني المزارعون من فقدان مصادر رزقهم، يئن المواطنون من الجوع وسوء التغذية، في ظل انهيار الأمن الغذائي وتدهور سبل العيش.
إن ما جرى ويجري في قطاع الزراعة في غزة ليس نتيجة عرضية للحرب، بل هو جزء من سياسة متعمدة تستهدف البيئة والاقتصاد والمجتمع في آنٍ واحد، بهدف تقويض أسس الحياة في القطاع. وتأتي هذه الورقة لتوثق بالحقائق والأرقام حجم الكارثة الزراعية، وتسلط الضوء على آثارها البيئية والغذائية، وتقدم توصيات عاجلة أمام المجتمع الدولي والمؤسسات المعنية لإنقاذ ما تبقى من الأرض والحياة في غزة.
أولًا: الوضع الزراعي قبل الحرب
- قبل الحرب، كانت الزراعة تُشكّل أحد أعمدة الاقتصاد المحلي في قطاع غزة، بمساحة مزروعة تقدَّر بنحو 170 ألف دونم، أي ما نسبته 47% من مجمل الأراضي الصالحة للزراعة، والتي يبلغ مجموعها حوالي 360 ألف دونم.
- تركز النشاط الزراعي في مناطق الجنوب (رفح وخان يونس) والشمال (بيت حانون وبيت لاهيا)، حيث شكّلت هذه المناطق السلة الغذائية الرئيسية لغزة، ووفرت معظم احتياجات السكان من الخضار والفواكه مثل الطماطم، الخيار، البطاطا، البصل، والباذنجان، إلى جانب الحمضيات والحبوب.
- ساهم هذا القطاع بما يقارب 10% من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع، ووفّر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لعشرات الآلاف من المزارعين والعمال الزراعيين، بالإضافة إلى آلاف العاملين في الصناعات المرتبطة بالإنتاج الزراعي كالتغليف، والنقل، والتسويق المحلي.
- وبحسب إحصاءات وزارة الزراعة في غزة ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO)، كانت الأراضي الزراعية في القطاع قادرة، في الظروف الطبيعية، على توفير أكثر من 60% من احتياجات السكان الغذائية الأساسية.
ثانيًا: الدمار الزراعي خلال الحرب (2023–2025)
تسلسل زمني للأضرار:
- نوفمبر 2023: خلال الأسبوع الأول من الحرب، سجلت تقارير وزارة الزراعة والـ FAO تضرر أكثر من 10 آلاف دونم، خصوصًا في المناطق الحدودية الشرقية التي كانت تضم أراضي مزروعة بكثافة.
- ديسمبر 2023: أكدت تقارير ميدانية من منظمة الأغذية والزراعة أن حجم الأضرار الزراعية تجاوز 25 ألف دونم، إلى جانب نفوق آلاف رؤوس الماشية، ما أدى إلى شلل شبه كامل في قطاع الإنتاج الحيواني.
- يناير 2024: مع تصاعد العمليات العسكرية البرية، بلغ حجم الدمار الزراعي في مناطق خان يونس ورفح ذروته، حيث تم تدمير ما لا يقل عن 50% من الأراضي الزراعية في تلك المناطق نتيجة التجريف العشوائي والقصف الجوي المستمر.
- مارس 2024: القصف الجوي المكثف على مناطق شمال قطاع غزة، لا سيما في بيت لاهيا، أدى إلى القضاء على المحاصيل الشتوية بالكامل، وخاصة الخضروات الورقية والبطاطا والبصل، ما تسبب بأزمة غذائية مبكرة.
- مايو 2024 – مايو 2025: مع استمرار العدوان الإسرائيلي واتساع رقعة الاجتياحات، تجاوزت مساحة الأراضي المدمرة حاجز 102 ألف دونم، أي ما يعادل نحو 60% من إجمالي الأراضي الزراعية في القطاع، وهو ما يُعد أسوأ تراجع في القدرة الإنتاجية الزراعية منذ عقود.
تدمير الأراضي الزراعية حسب المناطق
ملاحظات |
نسبة التدمير |
المنطقة |
دمار شبه كامل للأراضي شرق المدينة |
80% |
رفح |
تدمير كامل لمزارع القرارة، بني سهيلا، عبسان |
70% |
خان يونس |
تأثر مناطق واسعة في جحر الديك والزهراء |
40% |
دير البلح |
تدمير محيط الشجاعية والزيتون وشارع صلاح الدين |
50% |
غزة |
خسائر كبيرة في بيت لاهيا |
60% |
شمال القطاع |
ملاحظة: تُظهر المعطيات أن المناطق التي شهدت اجتياحات برية إسرائيلية مباشرة كانت الأكثر تضررًا من الناحية الزراعية، ويعود ذلك إلى تعمد الجيش الإسرائيلي تجريف الأراضي، وتدمير بنية الري، واستخدام المركبات المدرعة فوق المحاصيل، ما أدى إلى انهيار شبه تام في الغطاء النباتي، خصوصًا في المناطق الحدودية ذات الكثافة الزراعية العالية.
ثالثًا: تأثيرات بيئية وزراعية مباشرة
- تدمير آبار المياه: أدى القصف والاستهداف المباشر إلى تدمير ما لا يقل عن 40 بئرًا رئيسية للري في مناطق زراعية مركزية مثل رفح وخان يونس، ما تسبب في أزمة مياه خانقة أثّرت بشكل مباشر على ري المحاصيل وإنقاذ المتبقي من الإنتاج.
- حرائق واسعة النطاق: تسبب استخدام القنابل الفوسفورية في اشتعال حرائق ضخمة داخل الحقول الزراعية، لا سيما في شرق خان يونس وبيت حانون، وأدى ذلك إلى إتلاف التربة وتحويل أراضٍ خصبة إلى أراضٍ محترقة غير صالحة للزراعة.
- آثار التدمير الميكانيكي: استخدام المركبات العسكرية الثقيلة داخل الحقول الزراعية ألحق دمارًا واسعًا بالبنية السطحية للتربة، ودمّر شبكات الري، وأدى إلى تعرية الغطاء النباتي، مما ينذر بحدوث تصحر موضعي دائم في مناطق كانت تُعد من أكثر الأراضي إنتاجًا.
رابعًا: الأمن الغذائي في خطر
- سجلت انخفاضًا كارثيًا في الإنتاج الزراعي المحلي بنسبة 70%، وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، مما أدى إلى عجز حاد في توفير الخضروات والفواكه الأساسية.
- أشار تقرير مشترك صدر في يناير 2025 عن الفاو وبرنامج الأغذية العالمي إلى أن 75% من سكان غزة يعيشون في المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي، وهي أعلى درجات الخطر الغذائي.
- تسببت هذه الأزمة في ارتفاع أسعار الخضروات بنسبة تتراوح بين 200% و300%، وتحديدًا في منتجات مثل الطماطم، البطاطا، والخيار، والتي كانت تُنتج محليًا بكميات وفيرة.
- أصبح الاعتماد شبه الكامل على المساعدات الغذائية المقدمة من الأونروا والمنظمات الدولية هو الخيار الوحيد أمام مئات آلاف العائلات التي فقدت مصادر دخلها وغذائها.
خامسًا: خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة
- أدى العدوان إلى فقدان موسم زراعي كامل (2023–2024)، وتُقدّر الخسائر المالية الأولية بأكثر من 150 مليون دولار.
- خرج أكثر من 20 ألف مزارع وعامل زراعي من سوق العمل، مما زاد من معدلات البطالة في المناطق الريفية.
- تسبب القصف في تدمير شبكات التوريد والنقل الزراعي، بما في ذلك الطرق الترابية المؤدية إلى الأسواق، ومراكز التخزين.
- طال التدهور أيضًا قطاع الإنتاج الحيواني، حيث نفقت عشرات آلاف الدواجن والأبقار، وتم تدمير مزارع البيض والحليب بشكل واسع.
سادسًا: خلاصة:
تُظهر هذه الورقة أن ما جرى في القطاع الزراعي بغزة خلال العدوان (2023–2025) لم يكن مجرد أضرار جانبية لحرب عسكرية، بل يمثل سياسة تدمير ممنهجة تستهدف أحد أبرز مقومات الحياة والصمود في القطاع.
إن المساحات الزراعية التي كانت توفّر الغذاء والدخل والاستقرار الاقتصادي تم القضاء عليها بصورة شبه كاملة، مما عمّق من أزمة المجاعة، وأضعف قدرة السكان على البقاء، وفتح الباب أمام كارثة إنسانية مركبة تشمل الغذاء والماء والاقتصاد والبيئة، هذا الواقع الخطير يستدعي تحركًا فلسطينيًا موحدًا وضغطًا دوليًا عاجلًا لوضع حد لهذا الانهيار ودعم جهود الإنعاش الزراعي.
سابعًا: توصيات الورقة
- دعوة الأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة تحقيق فني مستقل، تحت إشراف منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، لإجراء مسح شامل وفوري للأضرار الزراعية وتوثيق جرائم التدمير البيئي وفق القانون الدولي.
- إنشاء "صندوق غزة الأخضر" متعدد الأطراف بإشراف البنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، يموّل من مساهمات دولية وعربية طوعية، بهدف: إعادة تأهيل البنية الزراعية التحتية، دعم سبل العيش للمزارعين، وتمويل حلول الزراعة المستدامة.
- المطالبة برفع القيود الإسرائيلية المفروضة على إدخال مستلزمات الإنتاج الزراعي فورًا، بما يشمل: البذور والأسمدة، المعدات الزراعية والطاقة الشمسية، وأنظمة الري الحديثة، وذلك ضمن تفاهمات أممية تربط بين الإغاثة والالتزامات القانونية للاحتلال.
- إطلاق برنامج وطني للزراعة الذكية والمستدامة بالشراكة مع المؤسسات الأكاديمية والممولين الدوليين، يشمل: معالجة التربة الملوثة، تطوير الزراعة الرأسية والزراعة في البيوت المحمية، الاستثمار في إنتاج الغذاء في المساحات الصغيرة (الأسطح – الحدائق المنزلية).
- تمويل عاجل للمشاريع الزراعية المجتمعية و"التعاونيات الإنتاجية" في المناطق الأكثر تضررًا، عبر: تقديم منح صغيرة ومتوسطة للمزارعين والنساء، توظيف الشباب العاطلين في أعمال التأهيل الزراعي، وربط هذه المشاريع بسلاسل التوريد المحلية والأسواق.
- الضغط الدولي لدمج بند "إعادة الإعمار الزراعي" في أي خطة دولية لإعادة إعمار غزة، بما يشمل: ضمان تمويل خاص للقطاع الزراعي (لا يقل عن 20% من أموال الإعمار)، واعتماد معايير العدالة البيئية واستعادة سبل العيش.
المصادر والاستشهادات:
- بيانات موثقة من:
- منظمة الأغذية والزراعة (FAO) – تقارير دورية (نوفمبر 2023 – أبريل 2025).
- اليونيسف – تقرير الوضع الإنساني في غزة (مارس 2024).
- برنامج الأغذية العالمي (WFP) – تقارير الأمن الغذائي (2024–2025).
- صور أقمار صناعية من UNOSAT.
- تحقيقات الجزيرة نت ومصادر محلية موثوقة.