تصاعد المعارضة داخل الجيش الإسرائيلي للحرب في غزة: الدوافع والتداعيات المحتملة على القرار السياسي والعسكري

مركز الدراسات السياسية والتنموية
مقدمة
مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الحادي والعشرين، لم تعد تداعياتها تقتصر على الجبهة العسكرية أو الساحة الفلسطينية، بل امتدت لتصيب عمق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نفسها بحالة من التململ والاعتراض غير المسبوقين، فقد بدأت تتبلور داخل الجيش، لا سيما بين جنود الاحتياط وذويهم، حركات احتجاجية متصاعدة تتحدى استمرارية الحرب وجدواها، وتضع القيادة السياسية والعسكرية أمام أزمة شرعية متزايدة.
لم تَعُد هذه الاعتراضات مجرد مواقف فردية، بل تحولت إلى ظاهرة جماعية ومنظمة، تنوعت بين الامتناع عن أداء الخدمة، والمطالبات بوقف القتال، وعرائض موقّعة، وتصريحات ضباط وقادة سابقين يشككون في الأهداف المعلنة للحرب ويصفونها بـ"المستنقع الإستراتيجي".[1]
تفاقمت تعقيدات المشهد الأمني والسياسي في الكيان الإسرائيلي مع اندلاع الحرب المفتوحة بينه وإيران منذ 13 يونيو 2025، مما فتح جبهة إضافية أمام المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، هذه الحرب الإقليمية عززت الضغوط الداخلية على الجيش والحكومة، وزادت من وتيرة الاحتجاجات والتململ العسكري، في ظل تخوفات من عدم قدرة القيادة على إدارة حرب متعددة الجبهات بكفاءة.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل جذور هذه المعارضة داخل الجيش، واستكشاف أبعادها النفسية والتنظيمية والسياسية، كما تسعى إلى تفكيك العوامل التي تغذيها، وتقديم قراءة في التداعيات المحتملة على الأداء العسكري، وعلى تماسك الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وعلى مستقبل القرار السياسي في ظل تصاعد الأصوات المعارضة من قلب المؤسسة الأمنية ذاتها.
أولًا: الخلفية العامة
اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، إثر عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، وشكّلت مفصلًا نوعيًا في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، إذ مثّلت انهيارًا أمنيًا واستخباراتيًا مدويًا للمنظومة العسكرية الإسرائيلية، وأدخلت "الداخل الإسرائيلي" في حالة صدمة استراتيجية لا تزال تداعياتها ممتدة حتى اليوم.
منذ الأيام الأولى للحرب، انتهجت القيادة الإسرائيلية سياسة "الأرض المحروقة" ضد قطاع غزة، ما أدى إلى مستويات غير مسبوقة من التدمير المادي والبشري، وسط دعم أميركي–غربي كثيف سياسيًا وعسكريًا، ومع ذلك، لم تنجح هذه السياسة في كسر إرادة المقاومة الفلسطينية أو تحقيق أهداف الحرب المعلنة، بل أدت إلى استنزاف عسكري طويل الأمد، استنزف قدرات الجيش الإسرائيلي، ورفع من معدلات القتلى والإصابات، خاصة في صفوف جنود الاحتياط المشاركين في المعارك البرية المتكررة داخل مناطق مشبعة بالمفاجآت العسكرية والأنفاق القتالية، كما أظهرت تقارير وزارة الجيش الإسرائيلية نفسها.
وقد أدى طول أمد الحرب، ودوران العمليات العسكرية دون إنجازات استراتيجية حاسمة، إلى تآكل ثقة قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي بفعالية المسار العسكري، واستنادًا إلى استطلاعات رأي متكررة نشرتها صحيفة هآرتس وقناة كان العبرية خلال النصف الأول من عام 2025، فإن نسبة الإسرائيليين الذين يعتقدون بوجود "فشل في إدارة الحرب" تجاوزت 60%، بينما ازدادت دعوات الانسحاب من غزة، خاصة من عائلات الجنود والجنود أنفسهم.
تزامن هذا التململ مع أزمة سياسية عميقة كانت تتفاعل داخل النظام السياسي الإسرائيلي حتى قبل اندلاع الحرب، بسبب مشروع التعديلات القضائية الذي طرحه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والذي أثار احتجاجات جماهيرية واسعة طوال عام 2023، وقد أدت هذه الأزمة إلى تعميق الانقسام بين التيارات اليمينية الدينية والقومية من جهة، وبين الأوساط الليبرالية والعلمانية من جهة أخرى، ما جعل البيئة السياسية والاجتماعية أكثر هشاشة في مواجهة حرب طويلة ومعقدة مثل تلك التي تدور في غزة.
في هذا السياق المركب، أصبحت الحرب بمثابة عامل مضاعف للأزمة، لا وسيلة للهروب منها، وبدأت التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي تصل إلى أكثر المؤسسات حساسية: الجيش ذاته.
في يونيو 2025، اندلعت مواجهات عسكرية واسعة النطاق بين الكيان الإسرائيلي وإيران، شملت عمليات عسكرية وبرية وجوية وأمنية على جبهات متعددة، ما أدى إلى استنزاف إضافي في الموارد البشرية والمادية للجيش الإسرائيلي، هذا التصعيد الإقليمي شكل ضغطًا مضاعفًا على القوات المسلحة، التي اضطرت للتعامل مع تحديات غير مسبوقة على أكثر من محور، ما ساهم في تعميق حالة الانقسام وعدم الثقة داخل المؤسسة العسكرية.
ثانيًا: مؤشرات التصاعد داخل الجيش الإسرائيلي
بدأت مؤشرات المعارضة للحرب تتسرب من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ الأشهر الأولى للعدوان على غزة، لكنها ما لبثت أن اتسعت لتتحول إلى ظاهرة شبه منظمة، تكتسب طابعًا سياسيًا واجتماعيًا متزايدًا، وتُظهر هذه المؤشرات أن الأزمة تجاوزت الخلافات السياسية داخل النخبة، لتصل إلى عمق الجهاز العسكري نفسه، بما في ذلك نخبه العملياتية والاستخباراتية. ويمكن رصد أبرز هذه المؤشرات في المحاور التالية:
- توسّع دائرة الرافضين للخدمة العسكرية
تشير تقديرات نشرتها وسائل إعلام عبرية ومنظمات احتجاجية مثل "الإخوة في السلاح"، إلى أن عشرات الآلاف من جنود وضباط الاحتياط قد شاركوا في التوقيع على عرائض أو بيانات احتجاجية ضد استمرار الحرب، وأبدوا تحفظهم على الاستدعاءات المتكررة للخدمة العسكرية في غزة، في حين أعلن عددٌ منهم رفضه الصريح للمشاركة في العمليات الجارية، وقد تراوحت هذه المواقف بين الامتناع الفردي، والاحتجاج العلني، وصولاً إلى الدعوة لإعادة النظر في أهداف الحرب واستراتيجياتها.
ولعل الأبرز في هذا السياق أن حركة الاعتراض لم تقتصر على الجنود العاديين، بل شملت عناصر من وحدات النخبة مثل:
- طياري سلاح الجو، والذين يُعدّون من النخبة العملياتية ذات الامتيازات الكبرى؛[2]
- وحدة 8200 التابعة للاستخبارات العسكرية، والمختصة بالتنصت الإلكتروني والتحليل السيبراني؛
- وحدة "شاييطت 13" (الضفادع البشرية)، إحدى أشرس وحدات الكوماندوز البحري؛
- فضلاً عن ضباط في وحدات "سييرت متكال" و"جولاني" و"ناحل"، وهي تشكّل العمود الفقري للعمليات البرية في غزة.
هذا الامتناع يعكس - في جوهره - تحولًا في المزاج العسكري، إذ باتت قطاعات نخبوية ترى أن الاستمرار في الحرب لا يخدم الأمن القومي الإسرائيلي، بل يزيد من حالة الاستنزاف دون أفق سياسي أو عسكري واضح[3].
- تحركات منظمة لعائلات الجنود والأسرى
تزامنًا مع رفض الخدمة، تصاعدت أنشطة عائلات الجنود، خاصة أولئك الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، والذين لا يزال مصيرهم غامضًا منذ بداية الحرب، وقد شهدت تل أبيب ومحيط مقر وزارة الأمن في "الكرياه" عدة تظاهرات حاشدة طالبت القيادة السياسية بالتوصل إلى صفقة تبادل، ووقف الحرب، باعتبار أن استمرارها يهدد حياة الأسرى ويعمّق المعاناة الإنسانية لأسرهم.
وقد اضطلعت منظمات مثل "منتدى العائلات" (המטה לשחרור החטופים) و**"الإخوة في السلاح"** (אחים לנשק)، بدور تنظيمي فاعل في تأطير هذه الاحتجاجات وتوسيع نطاقها، مستفيدة من رصيدها السابق في التظاهر ضد التعديلات القضائية مطلع 2023، ما أكسب حراكهم زخمًا جماهيريًا واهتمامًا إعلاميًا واسعًا، وتمثل هذه الأنشطة مصدر ضغط مباشر على المؤسسة السياسية والعسكرية، إذ تتحدث بلغة "الدم" و"الثمن العائلي" بعيدًا عن الجدل الأيديولوجي.
- تصاعد النقد العلني من قيادات سابقة في الجيش والمخابرات
في تحوّل لافت، خرجت عشرات الشخصيات الأمنية والعسكرية من الصف الأول في المؤسسة الإسرائيلية، للتعبير علنًا عن معارضتها لسياسات الحكومة، وتشكيكها في جدوى العمليات الجارية في غزة، فقد حذّر رئيس الوزراء الأسبق ورئيس الأركان السابق إيهود باراك من أن الكيان الإسرائيلي "يتجه نحو حرب استنزاف قد تنتهي بكارثة استراتيجية"، بينما دعا غادي آيزنكوت، عضو الكابينت المستقيل ورئيس الأركان الأسبق، إلى "تحديد أهداف قابلة للتحقيق وإعادة تقييم جدوى العمليات البرية".
كما انتقد كل من الرئيس السابق للموساد يوسي كوهين، ورئيس الاستخبارات العسكرية السابق عاموس يادلين، أداء القيادة السياسية، متهمين إياها بـ"غياب الرؤية الاستراتيجية"، و"الاستسلام لمنطق الانتقام بدل الحساب العقلاني"، وتعكس هذه التصريحات ليس فقط انقسامًا في التقدير العسكري، بل أيضًا أزمة ثقة متنامية بين المستويين الأمني والسياسي في الكيان الإسرائيلي.
4. الأثر النفسي المتفاقم على الجنود
إلى جانب التمرد السياسي والميداني، برزت تقارير متزايدة عن التدهور النفسي في صفوف الجنود، خصوصًا في وحدات المشاة والاحتياط المشاركة في المعارك البرية داخل قطاع غزة، فبحسب تقارير صدرت عن مركز الصحة النفسية التابع لجيش الاحتلال، نُشرت مقتطفات منها في صحيفة معاريف، سُجّلت زيادة بنسبة تزيد عن 70% في عدد الجنود الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، وحالات الانهيار العصبي، والانتحار أو محاولاته.
وتُعزى هذه الظواهر إلى ظروف القتال الشديدة داخل بيئة حضرية مدمّرة، مع ضغط القتال الطويل، والتعرض المستمر لعبوات ناسفة وقذائف الهاون والأنفاق المفخخة، فضلًا عن الشعور المتزايد بأن الحرب مفتوحة بلا نهاية قريبة أو أفق سياسي واضح.
تمثل هذه المؤشرات مجتمعة مؤشرًا خطيرًا على أزمة ثقة بنيوية داخل الجيش، تمس الانضباط والقدرة العملياتية والشرعية الداخلية للعمل العسكري، وهي تؤكد أن المعارضة لم تعد مجرد ردود فعل هامشية، بل أصبحت حركة منظّمة تطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الحرب واستمرارها.
- مستجدات الحرب على إيران
تزايدت مظاهر الرفض والاحتجاج داخل الجيش عقب اندلاع الحرب مع إيران، حيث عبّر عدد متزايد من جنود الاحتياط والوحدات الميدانية عن خشيتهم من الدخول في مواجهة متعددة الجبهات، مع غياب رؤية واضحة لكيفية الخروج من الأزمة.
ثالثًا: دوافع وأسباب تصاعد المعارضة العسكرية داخل الجيش الإسرائيلي
يمكن فهم التحول المتسارع في موقف قطاعات من الجيش الإسرائيلي تجاه الحرب في غزة من خلال تحليل السياقات السياسية والعسكرية والنفسية والاجتماعية المحيطة، والتي شكّلت مجموعة من الدوافع التراكمية لتنامي المعارضة الداخلية، وفيما يلي أبرز هذه الدوافع:
1. طول أمد الحرب وغياب استراتيجية واضحة
على مدار أكثر من عشرين شهرًا من الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023، فشلت الحكومة الإسرائيلية في تحقيق أهدافها المعلنة، وعلى رأسها "تفكيك بنية حركة حماس العسكرية والسياسية"، واستعادة الأسرى العسكريين المحتجزين في غزة.
هذا الإخفاق، إلى جانب تغيّر الأهداف المعلنة بصورة متكررة (من "القضاء على حماس" إلى "ردعها" إلى "فرض مناطق أمنية عازلة")، ولّد شعورًا عامًا داخل وحدات الجيش – خاصة النخبوية منها – بأن القيادة السياسية تفتقر لرؤية واضحة وخطة خروج عقلانية، وهو ما يعمّق حالة الانفصال الذهني والنفسي بين الجنود وصناع القرار السياسي.
"الجنود يقاتلون حربًا تبدو بلا نهاية، وبلا هدف واضح" – تعليق لضابط في الاحتياط نقلته صحيفة يديعوت أحرونوت.
2. تآكل الجبهة الداخلية العسكرية والاجتماعية
تكبدت القوات البرية الإسرائيلية خسائر متزايدة خلال العمليات في غزة، خصوصًا في المناطق الجنوبية مثل خان يونس ومحيط رفح وجباليا، حيث تكررت الكمائن والهجمات التي أوقعت قتلى وجرحى في صفوف الوحدات الخاصة (مثل لواء غولاني ونحال).
وقد أشارت تقارير عبرية إلى أن عدد القتلى الإسرائيليين في صفوف الجيش قد تجاوز الألف، بينما تراوح عدد المصابين بين 6 إلى 8 آلاف، كثير منهم بإصابات دائمة. هذا النزيف البشري بدأ يُترجم إلى تآكل في الحاضنة الاجتماعية للحرب، حتى داخل الطبقات الوسطى التي تقليديًا كانت داعمة للجيش.
3. فقدان الثقة بقيادة نتنياهو وتحالفاته اليمينية
يُعد البُعد السياسي من أهم العوامل التي تغذّي المعارضة داخل الجيش؛ إذ تعتقد قطاعات واسعة من العسكريين – خاصة في الاحتياط – أن الحرب تُدار بدوافع سياسية تهدف إلى إنقاذ نتنياهو من أزماته القضائية والشخصية، لا خدمة للمصلحة القومية.
وقد عبّر العديد من الجنود السابقين والضباط عن سخطهم إزاء ما وصفوه بـ"التضحية بالجيش من أجل أجندة سياسية ضيقة"، وسط اتهامات لحكومة نتنياهو بالفشل في التعامل مع مفاجأة 7 أكتوبر، وبالارتهان لأحزاب دينية ومتطرفة لا تعبّر عن المصلحة الأمنية للبلاد.
4.ضغط عائلات الأسرى والمجتمع المدني
تنامى دور عائلات الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة ليصبح عاملًا داخليًا ضاغطًا على المؤسسة العسكرية والسياسية. وتعتقد هذه العائلات أن استمرار العمليات العسكرية يشكل خطرًا مباشرًا على حياة أبنائها، ويعيق التوصل إلى اتفاق تبادل.
وقد تحولت هذه القضية إلى أزمة أخلاقية قومية، حيث تتهم العائلات الحكومة بتجاهل مصير أبنائها لأسباب سياسية أو استراتيجية غامضة، وبتعريضهم للتصفية من قبل المقاومة في حال استمرت العمليات المكثفة، لا سيما في رفح ومحيط الأنفاق الحدودية.
5. العبء الاقتصادي والتعبئة المستمرة
فرضت الحرب استنزافًا اقتصاديًا كبيرًا على المجتمع الإسرائيلي، وخاصة على قوات الاحتياط الذين تم استدعاؤهم في أكثر من دورة تعبئة منذ بداية الحرب. وقدرت تقارير اقتصادية – منها صادرة عن "بنك إسرائيل" – أن كلفة الحرب اليومية تتراوح بين 250 إلى 300 مليون دولار.
كما تأثر آلاف من جنود الاحتياط وعائلاتهم على المستوى المهني والمعيشي؛ إذ أُجبروا على ترك أعمالهم لفترات طويلة، ما أدى إلى حالة من الاستياء والتذمر الاقتصادي، أصبحت أحد دوافع المعارضة الصريحة للحرب.
"الحرب تكلفنا أرواحًا واقتصادًا وانهيارًا نفسيًا، ولا نعرف لماذا نستمر فيها"، وفق تصريح منسوب لأحد جنود لواء الاحتياط نُشر في صحيفة هآرتس.
- تعدد الجبهات وتفاقم الضغط العسكري:
تفاقم الوضع بعد اندلاع الحرب مع إيران، حيث اضطر الجيش الإسرائيلي لإدارة عمليات عسكرية متزامنة في غزة والجبهات الشمالية والجنوبية، مما زاد من العبء على القوات وقلل من فعالية الخطط العسكرية، وعزز الشعور بالإرهاق والقلق بين الجنود والضباط."
تمثل هذه العوامل المتداخلة مزيجًا متفجّرًا داخل المؤسسة العسكرية، حيث يمتزج البعد الميداني بالبُعد السياسي والنفسي والاجتماعي، ما يفسر التحول الكيفي من التذمر الفردي إلى التعبئة الجماعية المنظمة في صفوف الجيش وعائلاته، وهو ما سيُناقش في القسم التالي من هذه الورقة.
رابعًا: التداعيات المحتملة على القرار العسكري والسياسي
تُشير مؤشرات تصاعد المعارضة داخل الجيش الإسرائيلي إلى تحولات بنيوية في العلاقة بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية، بما ينذر بانعكاسات مباشرة على مسار الحرب وعلى طبيعة النظام السياسي ذاته، ويمكن استشراف أبرز هذه التداعيات على النحو التالي:
1. تآكل الجاهزية القتالية وإعادة النظر في العقيدة العسكرية
بدأت مؤشرات الإنهاك تظهر بوضوح على أداء الجيش الإسرائيلي، خاصة في صفوف القوات البرية، حيث لوحظ تراجع في معدلات التجنيد الطوعي وتزايد ظاهرة رفض الخدمة أو التهرّب منها، حتى في وحدات النخبة.
وفق تقارير من هيئة الأركان نقلتها وسائل إعلام عبرية، فإن الاستعداد القتالي للوحدات البرية بات مهددًا نتيجة الإرهاق المتراكم، والنقص في المعدات، والضغط النفسي الهائل على الجنود، ما يجعل أي تفكير في عمليات برية موسعة في المستقبل محفوفًا بمخاطر الفشل الميداني والمعنوي.
وقد أشار محللون عسكريون في صحيفة "معاريف" إلى أن "ثقة الجنود بقيادتهم تتآكل تدريجيًا، مما يضعف استجابتهم للأوامر في الميدان".
2.تعميق الانقسامات السياسية وإضعاف الحكومة
أصبحت المعارضة العسكرية، لا سيما القادمة من داخل الجيش وعائلات الجنود، رافعة سياسية لقوى المعارضة المدنية داخل الكنيست وخارجه. وقد استثمرت أحزاب الوسط واليسار هذه التحركات لتوسيع دائرة الهجوم على حكومة نتنياهو وتحالفاته اليمينية.
وتزايدت المطالبات بإجراء انتخابات مبكرة، وتشكيل لجان تحقيق رسمية في أداء الحكومة والجيش خلال الحرب، وهي مطالب بدأت تحظى بدعم من جنرالات سابقين وحتى شخصيات يمينية من داخل المؤسسة الأمنية.
في هذا السياق، قال وزير الدفاع الأسبق موشيه يعالون: "ما نراه اليوم هو انفجار لكل التناقضات التي حاول نتنياهو قمعها تحت ستار الحرب".
3. اهتزاز صورة الجيش داخليًا وخارجيًا
لطالما شكّلت صورة "الجيش الذي لا يُقهر" جزءًا أساسيًا من البنية الرمزية للدولة الإسرائيلية ومنظومتها الردعية. إلا أن الأداء المرتبك في غزة، وفشل العمليات في مناطق مثل الشجاعية وخان يونس، والخسائر البشرية المتصاعدة، أدّت إلى تآكل الثقة بهذه الصورة داخل المجتمع الإسرائيلي.
أما على الصعيد الخارجي، فقد بدأت دوائر بحثية ودبلوماسية غربية تتحدث – لأول مرة – عن أزمة بنيوية في الجيش الإسرائيلي، تتعلق بضعف القدرة على الحسم، وتراجع فعالية الردع، وتحول المؤسسة العسكرية إلى أداة في صراع سياسي داخلي لا في مشروع استراتيجي متماسك.
4. دفع الحكومة نحو خيارات تفاوضية اضطرارية
في ظل الضغط المتزايد من داخل الجيش، ومن عائلات الجنود والأسرى، إضافة إلى تقارير الأجهزة الأمنية التي تحذر من انفجار الجبهة الداخلية، تزداد احتمالات لجوء الحكومة إلى خيارات تفاوضية براغماتية.
وقد تشمل هذه الخيارات السعي لاتفاق تهدئة طويل الأمد مع المقاومة الفلسطينية، أو القبول بصفقات تبادل أسرى بشروط غير مسبوقة، كسبيل لتخفيف الأعباء السياسية والعسكرية.
تؤكد تقارير استخباراتية إسرائيلية أن "نتنياهو قد يضطر إلى التفاوض في ظل أزمة الشرعية الداخلية وتآكل التماسك العسكري"، وفق ما أورده موقع والا العبري في مايو 2025.
5. ارتدادات إقليمية ودولية على مكانة الكيان الإسرائيلي
تتابع الإدارة الأميركية تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة من زاوية تأثيرها على الاستقرار الإقليمي ومستقبل التحالفات الأمنية في الشرق الأوسط. وقد أبدت واشنطن، عبر قنواتها الأمنية، قلقها المتزايد من تدهور الكفاءة العسكرية الإسرائيلية، وارتفاع كلفة الدعم الاستراتيجي لها.
كما بدأت بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، بإعادة تقييم مواقفها من صفقات السلاح والدعم غير المشروط للكيان الإسرائيلي، في ظل تقارير إعلامية وإنسانية عن تورط الجيش الإسرائيلي في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في غزة.
وقد ورد في تقرير لمركز الدراسات الأمنية الألماني SWP: "الجيش الإسرائيلي يواجه أزمة ثقة داخلية وتآكلًا خارجيًا في آن واحد، ما قد يفرض تغييرات عميقة في منظومة العلاقات الأمنية مع الغرب".
وتزيد الحرب المفتوحة مع إيران من مخاوف واشنطن والدول الغربية بشأن استقرار الكيان الإسرائيلي الإقليمي، وقد تؤدي إلى إعادة تقييم حجم ونوعية الدعم العسكري والدبلوماسي المقدم لها. كما تضغط هذه الحرب على الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ قرارات أسرع تجاه وقف إطلاق النار أو تسويات مؤقتة.
تشير هذه المؤشرات مجتمعة إلى أن استمرار الحرب دون تحقيق إنجاز حاسم، مع تصاعد الرفض الداخلي، يُضعف قبضة القيادة السياسية، ويُربك حسابات المؤسسة العسكرية، ويُحدث شرخًا عميقًا في صورة الكيان الإسرائيلي الإقليمية والدولية. وهي معطيات ستنعكس حتمًا على شكل القرار الإسرائيلي في الشهور المقبلة، سواء باتجاه التصعيد المحكوم أو الانخراط في تسوية قسرية تفرضها معادلات الداخل والخارج معًا.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية
في ظل تصاعد المعارضة داخل الجيش الإسرائيلي وتفاقم الأزمات السياسية والعسكرية والاجتماعية، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمآلات الوضع الداخلي في الكيان الإسرائيلي خلال المرحلة المقبلة، مع ترجيح نسبي لكل سيناريو وفق الوقائع المتوفرة:
1. استمرار الاحتجاجات وتفاقم التوتر الداخلي
يشير هذا السيناريو إلى احتمال تواصل التململ داخل المؤسسة العسكرية، بالتوازي مع ازدياد الضغوط من قبل عائلات الجنود والأسرى، وسط عدم وجود حسم ميداني في غزة.
ويزداد احتمال تصاعد الاحتجاجات والرفض العسكري نتيجة تراكم الضغوط من مواجهة جبهات متعددة (غزة، لبنان، إيران)، مع مخاوف متزايدة من استنزاف الجيش وفقدان السيطرة.
- الشواهد:
- تصريحات متكررة من جهات أمنية إسرائيلية تحذر من "تدهور المعنويات في صفوف الجيش"، كما ورد في تقرير نشره موقع "تايمز أوف إسرائيل" (مايو 2025).
- ارتفاع أعداد الموقعين على عرائض رفض الخدمة في صفوف الاحتياط، والتي تجاوزت 100 ألف توقيع، وفق تقارير عبرية موثوقة.
- تهديدات صريحة من مجموعات "الإخوة في السلاح" بتصعيد الاحتجاجات وتوسيع رقعتها لتشمل قطاعات أمنية ومدنية.
- النتائج المحتملة:
- مزيد من التفكك في الجبهة الداخلية.
- خطر ظهور حالة من "التمرد المقنّع" في صفوف بعض وحدات الاحتياط، ما قد يؤدي إلى تآكل هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية.
- الترجيح:
يعد هذا السيناريو مرجّحًا على المدى القريب، نظرًا لاستمرار الجمود السياسي والعسكري، وفشل الحكومة في تقديم استراتيجية مخرج واضحة.
2.انفجار سياسي يدفع نحو انتخابات مبكرة
يتمثل هذا السيناريو في انهيار الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو تحت ضغط المعارضة الداخلية، والاحتجاجات العسكرية والمدنية، وتتزايد فرص انهيار التحالف الحكومي وطلب إجراء انتخابات مبكرة مع استمرار الأزمات الأمنية والداخلية التي زادتها الحرب مع إيران تعقيدًا
- الشواهد:
- دعوات متزايدة داخل الكنيست لحجب الثقة عن الحكومة، أبرزها من تحالف المعارضة بقيادة يائير لابيد وبيني غانتس.
- تصدعات داخل الائتلاف الحاكم، خاصة من قبل وزراء في "شاس" و"يهودوت هتوراه" الذين عبّروا عن امتعاضهم من إدارة الحرب وتدهور الاقتصاد.
- تسريبات إعلامية عن محادثات داخل حزب الليكود حول مستقبل نتنياهو بعد تراجع شعبيته.
- النتائج المحتملة:
- إجراء انتخابات خلال الأشهر المقبلة.
- صعود قوى سياسية أكثر ميلاً لتسوية النزاع مع غزة، أو تشكيل حكومة طوارئ بصيغة موسعة.
- الترجيح:
يُعتبر هذا السيناريو متوسط الاحتمال، إذ يعتمد على مدى قدرة المعارضة على حشد تأييد واسع، ومدى استعداد قوى يمينية للانفكاك عن نتنياهو.
3. انخراط اضطراري في تسوية مؤقتة
تحت الضغط الداخلي والخارجي المتزامن بسبب الأوضاع في غزة والحرب مع إيران، قد تضطر الحكومة الإسرائيلية لقبول وقف إطلاق نار طويل الأمد وصفقات تبادل مقابل إعادة هيكلة المشهد العسكري والسياسي.
- الشواهد:
- تقارير من جهاز الشاباك تحذر من "استنزاف متزايد للجيش قد يهدد الجبهة الشمالية"، ما يضغط نحو التهدئة جنوبًا.
- ضغوط أميركية متزايدة عبر القنوات الخلفية، حيث نقلت صحيفة "هآرتس" أن إدارة ترامب تُبدي "نفاد صبرها" من الجمود العسكري والسياسي في غزة.
- تصريحات غير مباشرة من شخصيات أمنية مثل غادي آيزنكوت وأفيف كوخافي تدعو إلى "مراجعة الاستراتيجية" وتلمّح إلى جدوى التهدئة.
- النتائج المحتملة:
- إعلان وقف إطلاق نار أحادي أو عبر وساطة إقليمية (مصر أو قطر).
- صفقة تبادل أسرى تترافق مع إعادة تموضع عسكري في غزة.
- استئناف المحادثات حول ترتيبات ما بعد الحرب، مثل تشكيل إدارة مدنية في القطاع.
- الترجيح:
يُعد هذا السيناريو مرجّحًا على المدى المتوسط إلى البعيد، خاصة إذا تزايد الضغط الأميركي، واستمرت خسائر الجيش دون تقدم نوعي على الأرض.
الترجيحات
في المجمل، يمكن القول إن السيناريو الأقرب على المدى القريب هو استمرار الاحتجاجات وتصاعد التوتر الداخلي، فيما يُتوقع أن يتجه المسار لاحقًا نحو تسوية مؤقتة تحت ضغط الانهيار الداخلي والعوامل الخارجية، أما خيار الانتخابات المبكرة، فرغم حضوره بقوة في النقاش السياسي، إلا أنه يبقى رهين التحولات داخل الائتلاف الحاكم وقدرة المعارضة على استثمار اللحظة، ولربما بعد فشل المعارضة في تمرير مشروع قانون حل الكنيست فجر الخميس 11 يونيو 2025، وما يحتاجه أي مشروع قانون جديد في هذا الاتجاه من وقت (6 شهور على الأقل) يصبح هذا السيناريو مستبعداً.
خلاصة
تعكس حالة الاحتجاجات والتململ المتصاعدة داخل صفوف الجيش الإسرائيلي والبيئة الأمنية المحيطة به مدى التآكل العميق في منظومة القرار العسكري والسياسي في الكيان الإسرائيلي بعد أكثر من عشرين شهرًا من حرب استنزاف قاسية في قطاع غزة، لم تعد هذه الظواهر معزولة أو هامشية، بل تحوّلت إلى مؤشرات بنيوية تعبّر عن أزمة ثقة متفاقمة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية، كما تكشف عن تشقق متزايد في الجبهة الداخلية التي طالما عوّلت عليها الحكومة الإسرائيلية كرافعة للاستمرار في العمليات طويلة الأمد.
لقد كشفت هذه الأزمة عن حدود القوة العسكرية الإسرائيلية في مواجهة مقاومة فلسطينية مرنة ومتجددة، وعن هشاشة التحالفات الداخلية التي باتت أكثر عرضة للانهيار بفعل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما أظهرت أن الحسابات الشخصية لبعض القادة، وتحديدًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قد باتت في تناقض صارخ مع ما تعتبره قطاعات واسعة من الجيش والمجتمع مصالح أمنية حيوية.
في ضوء هذه المعطيات، من المرجح أن تمارس الاحتجاجات داخل الجيش، إلى جانب الضغوط الدولية والاقتصادية المتزايدة، دورًا متسارعًا في دفع المؤسسة الإسرائيلية نحو إعادة تقييم خياراتها الاستراتيجية، وقد يؤدي ذلك إما إلى إنهاء الحرب عبر تسوية مرحلية، أو إلى تغييرات سياسية جوهرية تعيد رسم خريطة الحكم في الكيان الإسرائيلي.
بذلك، فإن أزمة الجيش ليست مجرد أزمة معنويات أو موارد، بل هي مؤشر واضح على دخول الكيان الإسرائيلي مرحلة حرجة من الانكشاف الاستراتيجي، حيث لم يعد بالإمكان تجاهل الأصوات الآتية من داخل البزة العسكرية نفسها، والتي قد تتحول في أي لحظة إلى قوة تغيير سياسي، أو إلى كابح حقيقي لاستمرار الحرب في شكلها الراهن.
التوصيات
- تكثيف الرصد والتوثيق لاحتجاجات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية
ينبغي للمؤسسات الفلسطينية، خاصة الإعلامية والسياسية، تسليط الضوء بشكل مكثف وممنهج على جميع أشكال الاحتجاجات والاعتراضات التي تصدر عن أفراد وضباط الجيش الإسرائيلي، باعتبارها ضغطًا داخليًا حقيقيًا يؤثر على صنع القرار في الكيان الإسرائيلي، هذا التوثيق يساعد في كشف هشاشة المؤسسة العسكرية ويوفر أرضية للمناورة السياسية والدبلوماسية.
- استثمار تأثير الاحتجاجات داخل الجيش الإسرائيلي لتعزيز جهود وقف الحرب
التأكيد في الخطاب السياسي والإعلامي على أن هذه الاحتجاجات هي مؤشر قوي على تآكل الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وأنها قد تكون نقطة تحول حاسمة في دفع الحكومة الإسرائيلية نحو وقف الحرب في غزة، هذا يعزز موقف المقاومة والمفاوضين الفلسطينيين في أي مفاوضات حول وقف إطلاق النار أو تبادل الأسرى.
- تسليط الضوء على الأزمة العميقة في القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية
التأكيد أن استمرار الحرب دون تحقيق الأهداف المعلنة يعكس أزمة داخلية عميقة في قيادة الكيان الإسرائيلي السياسية والعسكرية، ما يعني وجود تراجع في قدرتها على فرض إرادتها بالقوة، هذا يفتح أفقًا لتعزيز صمود الفلسطينيين واستثمار التراكمات في الداخل الإسرائيلي.
- إبراز حالة الاستنزاف البشري والعسكري التي يعاني منها الجيش الإسرائيلي
التوعية الدولية والإقليمية بأن الجيش الإسرائيلي يواجه استنزافًا غير مسبوق في صفوف قواته، ما ينعكس على قدرته القتالية واستمرارية العمليات العسكرية، هذه النقطة يجب أن تُستغل في الضغط على المجتمع الدولي لتعزيز جهود التهدئة والضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف العدوان.
- استثمار حالة تعدد الجبهات بين غزة والحرب مع إيران في الضغط الإعلامي والدبلوماسي على الكيان الإسرائيلي
وإبراز هشاشة وضعها الأمني وعجز قيادتها عن إدارة الصراعات المتعددة، مما يفتح المجال أمام مزيد من الدعم الدولي والدبلوماسي للقضية الفلسطينية.